الهجرة وضرورة الثورة العقائدية
د. خاطر الشافعى
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين, وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين..
وبعد...
روى الإمام أحمد عن أبي يحيى - مولى الزبير بن العوام - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : "البلاد بلادُ الله والعباد عباد الله، فحيثما أصبت خيرا فأقم".
وقد توعد القرآن الكريم المسلمين الذين لم يهاجروا إلى المدينة بعد أن هاجر إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم، كما توعد الأعراب الذين آمنوا ولم يهاجروا إلى المدينة حرصا على أموالهم وديارهم، فقال تعال : ﴿ إن الذين توفاهُمُ الْملائكةُ ظالمي أنْفُسهمْ قالُوا فيم كُنْتُمْ قالُوا كُنا مُسْتضْعفين في الْأرْض قالُوا ألمْ تكُنْ أرْضُ الله واسعة فتُهاجرُوا فيها فأُولئك مأْواهُمْ جهنمُ وساءتْ مصيرا ﴾ [النساء: 97] وكانت نتيجة ذلك أن بعض هؤلاء فُتن في دينه واضطر إلى إظهار التقية، ولكن هذه التقية كانت جائزة يوم أن لم تكن للإسلام دولة، أما بعد أن هاجر الرسول -صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة وأقام فيها دولة الإسلام، فلم يعد لهؤلاء عذر، بل وجبت عليهم الهجرة، ولهذا نجد القرآن الكريم لا يفرض علي المسلمين ولاية هؤلاء، لأنهم ليسوا أعضاء في المجتمع الإسلامي، وإذا كانت تربطهم بالمسلمين رابطة العقيدة، فإن نصرتهم تكون بناء على طلب منهم، يقول تعالى : ﴿ والذين آمنُوا ولمْ يُهاجرُوا ما لكُمْ منْ ولايتهمْ منْ شيْءٍ حتى يُهاجرُوا وإن اسْتنْصرُوكُمْ في الدين فعليْكُمُ النصْرُ إلا على قوْمٍ بيْنكُمْ وبيْنهُمْ ميثاق ﴾ [الأنفال: 72].
الهجرة لم تكن انتقالا ماديا من بلدٍ إلى آخر فحسب، ولكنها كانت انتقالا معنويا من حالٍ إلى حال، إذ نقلت الدعوة الإسلامية من حالة الضعف إلى القوة ومن حالة القلة إلى الكثرة.
الهجرة تعني لغة :
ترك شيء إلى آخر، أو الانتقال من حالٍ إلى حال، أو من بلد إلى بلد، يقول تعالى : ﴿ والرُجْز فاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 5]، وقال أيضا :﴿ واهْجُرْهُمْ هجْرا جميلا ﴾ [المزمل: 10] ، وتعني بمعناها الاصطلاحي الانتقال من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وهذه هي الهجرة المادية، أما الهجرة الشعورية فتعني الانتقال بالنفسية الإسلامية من مرحلة إلى مرحلة ٍأخرى بحيث تعتبر المرحلة الثانية أفضل من الأولى.
الهجرة الشعورية، تعني اصطلاحا :
إنكار ومعاداة كل ما لا يُرضي الله أو يخالف شريعة الله، ويُظهر المسلم هذا العداء بكل الوسائل الممكنة، بالجوارح أو باللسان أو بالقلب، ويعمل على تغييرها بكل الامكانات المتاحة، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول : "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان " وأساس هذه الهجرة النية، ولهذا يقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم : "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".
ومن هذا نرى الشارع الحكيم قد حدد نوعين من الهجرة لا ثالث لهما : هجرة إلى الله، وهجرة لغير الله، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم : "الهجرة خصلتان، إحداهما أن تهجر السيئات، والأخرى أن تهاجر إلى الله ورسوله، ولا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة".
إن الهجرة الشعورية واجبة على كل حال وفي كل حين، لأنها تتعلق بهجر ما لا يُرضي الله تعالى، وهي قائمة إلى أن تقوم الساعة.
ورد في صحيح مسلم أن مجاشع بن مسعود السلمي قال : جئتُ بأخي أبي معبد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد الفتح، فقلت : يا رسول الله بايعه على الهجرة. فقال صلى الله عليه وسلم : "قد مضت الهجرةُ بأهلها" قال مجاشع : فبأي شيء تبايعه؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم : "على الإسلام والجهاد والخير* ويقول - صلى الله عليه وسلم : "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها * أما قوله - صلى الله عليه وسلم : "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية" فالمراد بها هنا أن لا هجرة واجبة بعد الفتح، وقد زاد مسلم "وإذا استنفرتم فانفروا".
إن الهجرة ثورة عقائدية، بكل ما تحمله هذه العبارة من معانٍ إيجابية، لأنها غيرت أحوال المسلمين تغييرا جذريا، فنقلتهم من الضعف إلى القوة، ومن القلة إلى الكثرة، ومن الانحصار إلى الانتشار، ومن الاندحار إلى الانتصار، ولم تقف آثارها عند هذا الحد بل كانت ثورة على كل ما يخالف شريعة السماء وفطرة الإنسان السليمة، فشملت آثارها النواحي العقائدية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية حتى انتقلت الرسالة الإسلامية من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة.
فما أحوج المسلمين اليوم إلى هجرةٍ إلى الله ورسوله: هجرة إلى الله بالتمسك بحبله المتين وتحكيم شرعه القويم، وهجرة إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم، باتباع سنته، والاقتداء بسيرته، فإن فعلوا ذلك فقد بدأوا السير في الطريق الصحيح، وبدأوا يأخذون بأسباب النصر، وما النصر إلا من عند الله.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.